ً فعلا الأب هو السبع وهو الأسد وهو القادر وهو العمود.
وإذا كانت الظروف الاقتصادية قد أجبرت كثريًا من الآباء — ملايني الآباء — على
ترك عائلاتهم والسفر في بلاد الله خلق الله بحثً َّ ا عن لقمة العيش، فإن ظروف بقية العالم
العربي الغني فعلت بالأب ربما أكثر بكثري مما فعله الفقر ببعض الآباء؛ فاملال إغراء قوي
َ على مزيد من الربح والغنى. وقد انشغ َل الأب العربي بتنمية ثروته وبالأسفار من أجل َ
أعماله املترامية، شغله املال عن الأسرة، بل استعاض باملال عن الأسرة، وأصبحت أسرته ُّ
الحقيقية هي ودائعه في البنوك التي يطمئن على سعر فائدتها كل صباح، وقبل أن يلفظ
بكلمة مع أفراد أسرته الحقيقيِّني، وانشغل بأسعار الأسهم والسندات عن أقرب الناس إليه،
هو صحيح لم يَِغ ٌ ب في بلاد أخرى ليعمل، ولكنه حاضر في بلده بني أهله وأسرته، ولكنه ً
ذلك الحاضر الغائب، وما أبشع الأب حني يكون حاضرا غائبًا، فعلى الأقل في حالة الغيبة َّ
حج َّ ته معه كما يقولون، أما وهو حاضر وفي الوقت نفسه غائب فإن الوضع النفسي لأولاده
ً وليس هذا الوضع مقصورا على مصر أو على بلادنا العربية،
إنه وضع العالم الرأسمالي، َّ عاني من هروب الأب عقب الطفل الأول أو حتى الاشتراكي كله،
فكثري من الأُسر الأمريكية تُ ُ الثاني، وحالات الطلاق والانفصال الجسدي أو الفعلي ما أكثرها.
لقد كنت في لوس أنجلوس ُ تيح لي الاختلاط بكثري من الأسر الأمريكية، وامل ً ضحك أني لم أجد بينهم رجلا
تزوج ملرة ُ وأ َّ واحدة أو زوجة تزو ً جت رجلا ً واحدا، هناك حركة تبادل مواقع قائمة على قدم وساق
بني الأزواج والزوجات واملطلقات والأرامل. حركة يدفع ثمنها، أول من يدفع: الأولاد.
فتقريبًا ينشأ الأولاد بلا أسرة. ِ فالزوجة مشغولة بالاستمتاع بزوجيَّتِ ُ ها، والأب ٌ مشغول َ بعمله،
والأولاد متروكون ِّعوض مثقال ذرة ربع ُ للحضانة وللمدارس وللمربيات في أحيان،
وهي كلها أشياء لا تُ معشار الأبوة والأمومة الحقيقية، ومن أجل هذا يَهرب الأطفال مبكرا
من أسرهم في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة وربما أقل بكثري. ُسرهم الحقيقية قد نبذتهم
فإنهم يلجئون ُ يَهربون لأنهم يريدون «أسرة» وإذا كانت أ إلى تكوين «أسرات» أو «عصابات»
من الأولاد والبنات يَكونون آباءً وأمهات لبعضهم البعض. ومن أجل هذا السبب وحده تَكثُر التقاليع
ويتبوأ شاب معتوه كمانسون الذي قتَل شارون تيت وآخرين، يتبوأ مكانة الأب ويُ ِسيطر
سيطرة سيئة تامة على الشبان والفتيات 36 الأب الغائب َّ كأنه أصبح المعبود الأول. ولنفس هذا السبب أيضا،
وبطريقة أخرى، يَ ُهرب أولادنا في عاملنا العربي والإسلامي (الغني والفقري على حد سواء)
ويَذهبون ينضمون إلى الجماعات الدينية حتى يُصبح «الأمري» هو الأب أو رمز الأب أو صورة الأب
وكلمته هي العليا، ومن ناحية أخرى يَ ُهربون إلى شلل المخدرات والجلسات
والطرق املشبوهة التي تُصبح بمثابة ِّ عائلاتهم، وبالأصح ً تعويضا عن عائلاتهم الحقيقية.
وليس الأب الفعلي هو املشكلة في عالَمنا العربي. ً ولكن رئيس الدولة، والدولة هي بمثابة الأب أيضا،
الرئيس في العمل يقوم مقام الأب حتى الأم أحيانًا تقوم بدور الأب، ولكن هذا كله لا يُغني أبدا عن الأب الحقيقي،
إنما هي َ تعويضات وإسقاطات ومحاولات دائبة من شبابنا وشاباتنا للبحث عن هذا الشبح املفقود: الأب.
وإذا كان معظمنا ساخطني على الحكومات ورؤساء الحكومات وشيوخ القبائل، ِّ
في هؤلاء بحد ذاتهم، إنما السبب أننا ُ و«العَمد»، والكبار بشكل عام، فليس السبب كامنً نبحث
فيهم عن آبائنا املفقودين، بحنانهم ورحمتهم، برأيهم السديد وحكمتهم، بهذا حس َّ باملعزة واملحبة
واملودة والإكبار لإنسان ما ُّ الشعور النبيل الجميل الذي يدفعك حني تُ أن تقول له: ياه! دانت زي أبويا!
بالحب، بالحنان، بالحسم، بالقطع ساعة القطع، بهدهدة الحنان حني نحتاج إلى َ الحنان، وتكشرية العبوس
املحب حني نحتاج إلى حب َعبوس، نبحث فيهم عن آبائنا ً املفقودين هؤلاء، فلا نجدهم، فنزداد سخطا عليهم،
بينما سخطنا الأكبر ينصب على آبائنا ً ا وبذورا بلا ً الحقيقيني الذين تركونا بذورا بلا سيقان،
وسيقانًا بلا أوراق، وأورقًا وسيقانً ثمر.
فكيف يعود لنا أبونا الغائب؟
كيف؟
ذلك هو السؤال.
#يوسف إدريس
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
تحدث حتى أراك